الولاعة

10:42 PM / Posted by Sherif Mesallam / comments (0)

كان اليوم ممتلأ بالفراغ ... تركت لقدمي مسؤولية تحديد وجهتي .. و بدأت أتجول في شوارع القاهرة , أنا لا أعرف الكثير عن جغرافية القاهرة .. لكني كنت متأكدا انني في مكان ما في مدينة نصر

الشوارع نظيفة واسعه و فارغة الى حد ما مقارنة بشوارع قريتي الساذجه مما اعطاني احساسا مختلطا بالارتياح و الغم ... و الفراغ , .. المباني هناك شاهقة الارتفاع و انعكاس ضوء الشمس على نوافذها الزجاجيه يعطيك احساسا بالتقدم و الحضاره المزيفه ..

لم تكن لدي الكثير من الاختيارات خلال رحلة المشي سوا تدخين الكثير من السجائر .. فانا من هواة التدخين اثناء المشي .. مددت يدي في جيبي بحثا عن علبة السجائر الزرقاء لاكتشف انني قد فقدت ولاعتي ... الكثير من زحام المواصلات و التنطيط من مكان لاخر يجعل احتمال فقدان الكثير من الاشياء المهمه كبيرا جدا .. عموما لم تكن مشكله كبيره فعدد الاكشاك الحقيره اللتي ترقد اسفل مباني المدينة كبير جدا .. ذهبت لاحدها لاجد البائع و قد فعل الزمن به الافاعيل يشعل سيجاره .. ولاعته لفتت انتباهي .. غريبه هي .. الوانها الابيض و الاسود فقط .. مع كلمة Music كتبت عليها بخط غاية في الجمال و الاتقان .. و رسم عشوائي اسفل الكلمه يكمل اللوحه الفنية .. صغيرة هي في حجم أصغر اصابع اليد ..

- عايز و لاعة لو سمحت ..
- اتفضل يا باشا .. عندك دول سخان .. و دول عاده

اخذت استكشف الولاعات .. لكن شيء ما في رأسي لم يكف عن التفكير في ولاعة الرجل .. كم سأحس بالرضا لو كانت هذه الولاعه ملكي !

- معندكش ولاعة زي اللي معاك دي يا باشا ؟
- الرجل ضاحكا باستهتار و كانه اعتاد السؤال : امال يا باشا كل الالوان كمان .. (يخرج شيء ما من احد الاماكن المظلمه داخل الكشك )
- اتفضل يا بشمهندس اي خدمه
- اشمعنى مخبيهم يعني
- اصل دول مش لاي حد يا باشا
أحسست بفخر غير مبرر .. مع احساس اكيد ان هذا الرجل "بيشتغلني" .. اخذت اقلب في الولاعات المشابهه .. هي نسخ متطابقة مع و لاعة الرجل .. اخترت احداها .. نظرت لها متفحصا .. نفس الشكل .. الألوان .. الحجم .. لكن هناك شيئا ما يشعرني بالخطا .. ليس هذا ما اريده .. أنا اريد الولاعه اللتي تقطن جيب هذا الرجل !

بعد تفكير عميق و كثير من النظرات الاستنكاريه من الرجل ... استجمعت شجاعتي ..
- تبيع الولاعه اللي معاك دي يا ريس ؟
- الرجل ببلاهه : نعم ؟
- الولاعه اللي معاك دي .. تبيعها ؟
- الرجل و قد تأكد اني مصاب باحد حالات الخلل العقلي .. و نظره في عينيه تعني "هو ده بقى رزق الهبل عالمجانين !" : و ماله يا بشمهندس .. اتفضل من غير حاجه و الله .
- قلت و انا اخرج محفظتي : ربنا يخليك .. شوف بس عايز فيها كام .
- عشره جنيه ان شاء الله
لم يفاجئني استغلال الموقف .. فانا اعلم مسبقا نظرته لرجل يطلب ولاعة مستعمله من بائع كشك .. مددت يدي بالنقود و بعد خلي و ربنا يخليك
- استنى المعها و املهالك بس يا باشا
- لا لا .. هاتها كده
- يمد يده بالولاعه مع ضحكه بلهاء و نظرة انتصار في عينيه : اتفضل .

اخذت ولاعتي الجديده .. شعرت بفرح عارم .. كم هي جميله .. كم هي مناسبة جدا ! لم احس باي ندم على النقود بالرغم من اني رفضت للتو ركوب تاكسي لاصل الى وجهتي السابقة مقابل نصف ثمن الولاعه لاني شعرت انه "حرام في الكام متر دول فلوس التاكسي " !

اخذت انظر للولاعه مع خطوات حذره .. أضعها على يدي .. بين اصابعي .. أشعلها ثم أشعلها .. بلا توقف .. لقد وقعت في عشق هذه الولاعه !

أخذت اتخيل نفسي و انا في القهوه اللتي اجلس عليها دائما .. اخرج الولاعه و اشعل سيجاره .. كم سيحسدني الجميع ! كم من اصدقائي سيطلبها مني و ارفض بغرور ! .. كم من المارين بجانبي ستخطف انظارهم ولاعتي الجميله !

أخذت اشعل سيجاره تلو الأخرى .. بلا توقف .. نفذت علبة السجائر .. لم اتوقف عن اشعال الولاعه .. بجنون .. بعشق !
بدا اهتمامي الزائد بالولاعه يظهر على وجوه الناس .. و هناك احتمال لا بأس به اني سمعت احد الماره و هو يقول "خيبه على شباب الايام دي .. خيبه"

لم اهتم لكل هذا .. فامتلاك الولاعه يشعرني بالسعاده .. قد ابدو تافها .. لكني في غاية السعاده .. نظرت الى علبه السجائر الجديده اللتي ابتعتها للتو .. ابحث بداخلها عن مكان لاضع فيه ولاعتي الثمينه ..

- حااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااسب !!

كانت هذه اخر كلمه سمعتها قبل الظلام اللذي استمر لدقائق .. فتحت عيني المرهقتين لاجد الكثير حولي و الكثير من " لا حول الله يا رب "

تحسست جسدي فلم اجد ما ينقصه .. تحسست جيوبي لاجد الكثير ينقصها .. اين الولاعه !!!

اخذت اردد بصوت يزداد قوة و ارتفاعا تدريجيا .. الولاعه .. الولاعه ! .. مع ازدياد كمية " لا حول الله يا رب " من حولي .. مع "اصله وقع على دماغه" من احد الماره .

اخذت ابحث بجنون .. في ايادي الماره .. في جنبات الطريق اللذي ازدحم فجأه بالكثير من السيارات المطحونة .. اخذت اتنقل من ركن الى ركن و قد بدى الطريق ضيقا جدا متسخا جدا كطرقات قريتي الساذجه .. أين الولاعه ! أخذت أدفع جسدي دفعا بين البنايات المرتفعه .. لم اهتم لنوافذها الزجاجيه و هي تتكسر الواحده تلو الاخرى و ضوء الشمس اللذي يفضح الكثير من القذاره بداخلها .. فقط كنت ابحث عن الولاعه !

بلغ مني الارهاق مبلغه .. افترشت الارض بجانب أحد الاكشاك العن الظروف اللتي تنزع مني كل ما يسعدني .. ازحت بعض الزجاج المكسور اللذي تساقط على كتفي و لم استطع ازاله الاوساخ اللتي علقت بحذائي

- ولاعتك يابني !

التفت و قد اتسعت عيناي لاجد رجلا في كامل هندامه يمد يده بولاعه .. و قد ارتسمت على وجهه ابتسامه ملائكيه مريحه
- شكرا .. انا كنت بضور عليها انت ..
لم اكمل كلامي حيث ان الرجل لم يعطني الفرصه لذلك .. فقد اعطاني اياها و رحل .. يمشي بخطوات واثقه سعيده .. و قد تخيلت اني اراه يختفي شيئا فشيئا كافلام السينما .

احسست بالكثير من التعب .. قد مشيت كثيرا , افترشت الارض مره اخرى .. اخذت انظر الى الولاعه في تركيز مزيف .. نظرت لها كثيرا ..أحسست بالكثير من عدم الرضا .. القيتها خلفي .. اغمضت عيني لأحلم بشوارع قريتي المتسخه .